قال الله تعالى في سورة آل عمران التي أنزل صدرها وهو ثلاث وثمانون آية منها في الرد على النصارى عليهم لعائن الله الذين زعموا أن لله ولدا وتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا
وكان قد قدم وفد نجران منهم على رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) فجعلوا يذكرون ما هم عليه من الباطل من التثليث في الأقانيم ويدعون بزعمهم أن الله ثالث ثلاثة وهم الذات المقدسة وعيسى ومريم على اختلاف فرقهم فأنزل الله عز و جل صدر هذه السورة بين فيها أن عيسى بعد من عباد الله خلقه وصوره في الرحم كما صور غيره من المخلوقات وأنه خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم وقال له كن فكان سبحانه وتعالى وبين اصل ميلاد أمه مريم وكيف كان من أمرها وكيف حملت بولدها عيسى وكذلك بسط ذلك في سورة مريم كما سنتكلم على ذلك كله بعون الله وحسن توفيقه وهدايته
فقال تعالى وهو أصدق القائلين : { إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم * إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم * فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم * فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب }
يذكر تعالى أنه اصطفى آدم عليه السلام والخلص من ذريته المتبعين شرعه الملازمين طاعته ثم خصص فقال : { وآل إبراهيم } فدخل فيهم بنو إسماعيل ثم ذكر فضل هذا البية الطاهر الطيب وهم آل عمران والمراد بعمران هذا والد مريم عليهما السلام
وقال محمد بن إسحاق : وهو عمران بن هشام بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن موثم بن عزازيا بن أمصيا بن ياوش بن أحريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إيشا بن إيان بن رحبعام بن داود
وقال أبو القاسم بن عساكر : مريم بنت عمران بن ماثان بن العازر بن اليهود بن أخنز بن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن أيبود بن زرابابيل ابن شالتال بن يوحينا بن برشا بن أمون ابن ميشا بن حزقيا بن أحاز بن موثام بن عزريا بن يورام بن يوشافاط بن إيشا بن إيبا بن رحبعام بن سليمان بن داود عليه السلام وفيه مخالفة لما ذكره محمد بن إسحاق
ولا خلاف أنها من سلالة داود عليه السلام وكان أبوها عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه وكانت أمها وهي حنة بنت فاقود بن قبيل من العابدات وكان زكريا نبي ذلك الزمان زوج أخت مريم " أشياع " في قول الجمهور وقيل زوج خالتها " أشياع " فالله أعلم
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أن أمر مريم كانت لا تحبل فرأت يوما طائرا يزق فرخا له فاشتهت الولد فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها محررا أي حبيسا في بيت المقدس
قالوا : فحاضت من فورها فلما طهرت واقعها بعلها فحملت بمريم عليها السلام { فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت } وقرئ بضم التاء { وليس الذكر كالأنثى } أي في خدمة بيت المقدس وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداما من أولادهم
وقولها : { وإني سميتها مريم } استدل به على تسمية المولود يوم يولد وكما ثبت في الصحيحين عن أنس في ذهبه بأخيه إلى رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) فحنك أخاه وسماه عبد الله وجاء في حديث الحسن عن سمرة مرفوعا : [ كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمي ويحلق رأسه ]
رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وجاء في بعض ألفاظه : [ ويدمى ] بدل [ ويسمى ] وصححه بعضهم والله أعلم
وقولها : { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } قد استجيب لها في هذا كما تقبل منها نذرها فقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) قال : [ ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إلا مريم وابنها ] ثم يقول أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم : { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم }
أخرجاه من حديث عبد الرزاق ورواه ابن جرير عن أحمد بن الفرج عن بقية عن عبد الله بن الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) بنحوه
وقال أحمد أيضا : حدثنا إسماعيل بن عمر حدثنا ابن أبي ذؤيب عن عجلان مولى المشتمعل عن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) قال : [ كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان بأصبعه إلا مريم بنت عمران وابنها عيسى ]
تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب عن عمر بن الحارث عن أبي يونس عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) بنحوه
وقال أحمد : حدثنا هشيم حدثنا حفص بن ميسرة عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) قال : [ كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه إلا ما كان من مريم وابنها ألم تر إلى الصبي حين يسقط كيف يصرخ ؟ قالو : بلى يا رسول الله قال : ذلك حين يلكزه الشيطان بحضنيه ]
وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه من هذا الوجه ورواه قيس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) : [ ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة - أو عصرتين - إلا عيسى ابن مريم ومريم ] ثم قرأ رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم }
وكذا رواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبيد الله بن قسيط عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) بأصل الحديث
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله حدثنا المغيرة هو ابن عبد الرحمن الحزامي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) قال : [ كل نبي آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب ] وهذا على شرط الصحيحين ولم يخرجوه من هذا الوجه
وقوله : { فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا } ذكر كثير من الفسرين أن أمها حين وضعتها لفتها في خرقها ثم خرجت بها إلى المسجد فسلمتها إلى العباد الذين هم مقيمون به وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم فتنازعوا فيها والظاهر أنها إنما سلمتها إليهم بعد رضاعها وكفالة مثلها في صغرها
ثم لما دفعتها إليهم تنازعوا في أيهم يكفلها وكان زكريا نبيهم في ذلك الزمان وقد أراد أن يستبد بها دونهم من أجل زوجته أختها أو خالتها على القولين فشاحوه في ذلك وطلبوا أن يقترع معهم فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة لهم وذلك أن الخالة بمنزلة الأم
قال الله تعالى { وكفلها زكريا } أي بسبب غلبه لهم في القرعة كما قال تعالى : { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون } قالوا : وذلك أن كلا منهم ألقى قلمه معروفا به ثم حملوها ووضعوها في موضع وأمروا غلاما لم يبلغ الحنث فأخرج واحدا منها وظهر قلم زكريا عليه السلام فطلبوا أن يقترعوا مرة ثانية وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر فأيهم جرى قلمه على خلاف جرية الماء وسارة أقلامهم مع الماء ثم طلبوا منه أن يقترعوا ثالثة فأيهم جرى قلمه مع الماء ويكون بقية الأقلام قد انعكس سيرها صعدا فهو الغالب ففعلوا فكن زكريا هو الغالب لهم فكفلها إذا كان أحق بها شرعا وقدرا لوجوه عديدة
قال الله تعالى : { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } قال المفسرون : اتخذ لها زكريا مكانا شريفا من المسجد لا يدخله سواها فكانت تعبد الله فيه وتقوم بما يجب عليها من سدانة البيت إذا جاءت نوبتها وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها حتى صارت يضرب بها المثل بعبادتها في بني إسرائيل واشتهرت بما ظهر عليها من الأحوال الكريمة والصفات الشريفة حتى إنه كان نبي الله زكريا كلما دخل عليها موضع عبادتها يجد عندها رزقا غريبا في غير أوانه فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فيسألها { أنى لك هذا } فتقول : { هو من عند الله } أي رزق رزقنيه الله { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب }
فعند ذلك وهنالك طمع زكريا في وجود ولد من صلبه وإن كان قد أسن وكبر { قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء } قال بعضهم : قال : يامن يرزق مريم الثمر في غير أوانه هب لي ولدا وإن كان في غير أوانه فكان من هبره وقضيته ما قدمنا ذكره في قصته
{ وإن قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين * يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين * ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون * إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين * قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل * ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين * ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم }
يذكر تعالى أن الملائكة بشرت مريم باصطفاء الله لها من بين سائر نساء علمي زمانها بأن اختارها لإيجاد ولد منها من غير اب وبشرت بأن يكون نبيا شريفا { يكلم الناس في المهد } أي في صغره يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وكذلك في حال كهوليته فدل على أن يبلغ الكهولة ويدعو إلى الله فيها وأمرت بكثرة العبادة والقنةت والسجود والركوع لتكون ÷لا لهذه الكرامة ولتقوم بشكر هذه النعمة فيقال إنها كاتن تقوم في الصلاة حتى تفطرت قدماها رضي الله عنها ورحمها ورحم أمها وأباها
فقول الملائكة : { يا مريم إن الله اصطفاك } أي اختارك واجتباك { وطهرك } أي من الأخلاق الرذيلة وأعطاك الصفات الجميلة { واصطفاك على نساء العالمين } يحتمل أن يكون المراد عالمي زمانها كقوله لموسى : { إني اصطفيتك على الناس } وكقوله عن بني إسرائيل : { ولقد اخترناهم على علم على العالمين } ومعلوم أن إبراهيم علييه السلام أفضل من موسى وأن محمدا ( صلى الله عليه و سلم ) أفضل منهما وكذلك هذه الأمة أفضل من سائر الأمم قبلها وأكثر عددا وأفضل علما وأزكى عملا من بني إسرائيل وغيرهم
ويحتمل أن يكون قوله : { واصطفاك على نساء العالمين } محفوظ العموم فتكون أفضل نساء الدنيا ممن كان قبلها أو جد بعدها لأنها إن كانت نبية على قول من يقول بنبوتها ونبوة سارة أم إسحاق نبوة أم موسى محتجا بكلام الملائكة والوحي إلى أم موسى كما يزعم ذلك ابن حزم وغيره فلا يمتنع على هذا أن تكون مريم أفضل من سارة أم موسى لعموم قوله : { واصطفاك على نساء العالمين } إذ لم يعارضه غيره والله أعلم
وأما قول الجمهور كما قد حكاه أبو الحسن الأشعري وغيره من أهل السنة والجماعة من أن النبوة مختصة بالرجال وليس في النساء نبية فيكون أعلى مقامات مريم كما قال الله تعالى : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة } فعلى هذا لا يمتنع أن تكون أفضل الصديقات المشهورات ممن كان قبلها وممن يكون بعدها والله أعلم
وقد جاء ذكرها مقرونا مع آسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه و سلم ) وBهن وأرضاهن