عدد الرسائل : 336 العمر : 41 المزاج : تاريخ التسجيل : 19/05/2008
موضوع: أزمة فكر أم أخلاق السبت أغسطس 23, 2008 10:53 pm
[center][size=24]
أزمة فكر أم أخلاق
إنَّ أصدق الكلام كلام الله و خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه و آله وسلم و إنَّ من كلامه تعالى قوله :
( إنَّا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرضِ و الجبالِ فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسانُ إنهُ كان ظلوماً جهولا) . و الأمانة فسرت كما يذكرُ العلامةُ القاسميُّ بالطاعةِ أو بالفرائض و الحدودِ و الدينِ أو بمعرفتهِ تعالى . قال الإمام ابن كثيرٍ و كلُّ هذه الأقوالِ لا تَنَافيَ بينها ؛ بل هي متفقةٌ و راجعةٌ إلى أنها التكليفُ و قبول الأوامرِ و النواهي ، وحملها الإنسان بسبب استعدادهِ الفطري فإن تَرَكَ أداءَ الأمانةِ كان ظلوماً ، و إن ترك أسباب سعادتهِ مع التمكن منها كان جهولاً ؛ و أصبحت تَبِعَةُ الأمانةِ عظيمةً عندما جعل الله في الأرض خليفةً ؛ فخلق آدم ثم ورثتِ البشريةُ مهمةَ الاستخلافِ و حُمِّلتِ الأمانة . و كيفما تحرك المهتدون فإنما يدندنون حول الاستخلاف و الأمانة و هي راية حملتها يد النبوة من لدنِّ آدم عليه السلام و انتهاء بخاتم الأنبياء و الرسل صلى الله عليه و آله وسلم ؛ لتستلم الأمة المسلمة هذه المسؤولية العظمى . قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيداً ) و تربية هذه الأمة الراشدةِ صاحبةُ الوسطيةِ عمليةٌ طويلةٌ شاملةٌ تتعرض لِمُعَوِّقاتٍ كثيرة ، هذه الأمة حاملة رسالةٍ قرآنيةٍ ربانية إلى كل شعوب الأرض ، وكما يقول أحد المربين : "قد يكون المطلوبُ اليومَ بإلحاحٍ التأكيد على أهمية تشكيل شخصيةِ المسلم المعاصر الذي يجسد القيم الإسلامية في واقع عملي و يبرهن على أنَّ خلود الرسالة الخاتمة و صلاحيتها لكل زمانٍ و مكان إنما يتمثل في قدرتها على إنجابِ الأنموذج المطلوبِ و تقديم الحلول الحضارية لمشكلات البشرية الكبرى . و لوحظ أن هناك تياران يحاولان تحديد المشكلة أهي مشكلة أخلاق أم مشكلة أفكار ؛ أي : هل أن المسلمين يعرفون الأمور الصحيحة و مشكلتهم إنما هي أمر تربويٌ و حَملٌ على ما يعرفون ؟ أم أن المشكلة ليست مشكلة التزام بما يعرفون فهم ملتزمون و لكن ما يعرفونه فيه أغلاط كثيرة تحتاج إلى صياغة جديدة ؛ أي بناء عالم الأفكار الصحيحة بدل عالم الأفكار المغلوطة التي يعيشون خلالها. و نذكر الوقت كمثال يختل فيه الفقه الفكري و الأخلاقي عند الكثيرين ، فالوقت في بلاد العالم الثالث لا وزن له ، و في الدول الصناعية الكبرى لا يُحرص عليه إلا بسبب إدراك قيمته المادية ومن أي دافع أخلاقي .. وحدها الأمة الإسلامية جمعت بين الجانب الفكري البنَّاء و الجانب الأخلاقي الصحيح ، وعندما سئل العالم الذي كان يرمي رغيفه اليومي في طبق ماء ثم يحسوه ، عندما سئل عن سبب ذلك ؛ قال : ما بين مضغ الخبز و حسوه مقدار قراءة خمسين آية ، و الإمام المنذري رحمه الله غسَّل أحد أولاده في مدرسته و شيعه باكياً إلى باب المدرسة فقط و استودعه الله ليتابع درساً ما كان لغير أمثاله أن يحرص عليه . إنَّ أبعاد الاستخلاف الرباني و أداء الأمانة قد تبلور بشكل مذهل في شتى صعد الحياة عند أهل الالتزام . الإمام ابن القيم رحمه الله اغتنم فرصة سفره إلى الحج فكتب فوق راحلته كتابه العظيم زاد المعاد و الذي هو موسوعة من الموسوعات الكبيرة في فقه سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم . كثيرون لا يزالون غير مدركين لأهمية الأمانة حملاً و تكليفاً . أراد البعض أن يثرثر مع أحد المربين فقال له المربي : أمسك الشمس ، فالوقت يجري و هو من أثمن ما لدينا ، لماذا يثرثر البعض في الهاتف ساعات يمكن اختصارها إلى دقائق معدودة و كثيرون يتحدثون و يبحثون عن درس يتعلمون به دينهم و ربما طلبوا ذلك لأولادهم ولكن رأينا أن التجارة والولائم و المشاريع الخاصة عند الكبار و أوقات النوم و الراحة و الانبساط و التسلية و أمثالها عند الصغار بأتي في الأولويات و بعدها يمكن الاهتمام بدرس فقه أو علم يَتْرُكُ مُلقيه كل شؤونه الخاصة لأجل الآخرين فيعطونه فضول أوقاتهم . قال شجاع بن مَخْلَد سمعت أبا يوسف يقول : "مات ابنٌ لي فلم أحضر جنازته و لا دفنه و تركته على جيراني و أقربائي مخافة أن يفوتني من أبي حنيفة شئ لا تذهب حسرته عني" . ما معنى أن نسأل عن الحقوق و ننسى الواجبات ، وما معنى أن تتحول المصلحة الخاصة لكل واحد منا إلى المصلحة العامة ، ولماذا لا يحترم البعض إشارات المرور و لماذا يلقي البعض بقشور الموز في الطريق بدل حملها و لماذا يزرع الفلاح أشجاراً لا تبعد عن الحد إلا بضعة سنتمترات لتأكل من تراب جاره و تشرب من ماءه. لماذا يُستغل القروي الساذج عندما يأتي إلى المدينة على يد بعض من ينتمون إلى الإسلام انتماء العملة المزورة إلى الورق و لماذا يكون عند بعض الأساتذة الكرام و المربيات الفاضلات معياران لتدريس الناس و تفقيههم: معيار فيه كل التعسير و التنطع و الانغلاق وهو للناس جميعاً و معيار آخر في بيوتهم حافلٍ بالتيسير و الترخيص و الانفتاح . و لماذا يصلي البعض في المسجد ثم يخرج منه ليأكل لحم خطيبه من دون حجة ولا بيان ولماذا يغرر البعض بالشباب فيفتحون لهم في كل يوم ألف جبهةِ مواجهة و لا يبنون لهم رؤية متوازنة تَمتص منهم عوامل التوتر و القلق و الاضطراب ، ولماذا يتحدث الكثيرون عن الرشوة و هم دافعوها وعن الظلم و هم مثبتوه وعن الأخلاق و هم ناسفوها و سواء أكانت الأزمة ضياع الأفكار الصحيحة أو انعدام الأخلاق الفاضلة أو مزيجاً معقداً منهما فإن المسؤولية الفردية في كليهما هي بداية الانعتاق من الخلل الفكري و الأخلاقي. إن الحقوق أيها الناس تؤخذ و لا تعطى و الأمة التي لا تريد أن تحافظ على كرامتها بالتضحية مهما كان الثمن لا تستحق أن تعيش أصلاً . انتشار الرشوة أزمة أفكار وَلَّدَتْ أزمة أخلاق ، وكل ذلك صنع بأيدينا و لم يصنعه أحد لنا ، و كما رضينا من أجل شهواتنا بأن نستبيح كل مقدس و محترم فعلينا من أجل عقيدتنا و مبادئنا أن نصبر على كل ثمن و ن قدم كل نفيس و إلا بقينا ندور حول رحى الضياع و الفساد قروناً قرونا. الفساد ينبع من ضياع الفكرة الصحيحة و الخلق السوي . بعيداً عن الإغراق و التحليل يبقى أساس الشهود الحضاري الصحيح و التوازن الحياتي البناء المُسعِد :كتاب الله و سنة نبيه الهادي صلى الله عليه و آله و سلم ، و بآية واحدة لخصت المشكلة و قدم الحل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (و العصر إنَّ الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر) العصر . ففي محكم التأويل أنَّ الإمام الشافعي رحمه الله قال : لو فكر الناس كلهم في هذه الصورة لكفتهم ، و ذكر الطبراني أن الرجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها ثم يسلم أحدهما على الآخر ، وقد ظن الناس أن ذلك كان للتبرك وهو خطأ و إنما كان ليذكر كل واحد منهما صاحبه فيما ورد فيها خصوصاً من التواصي بالحق و التواصي بالصبر حتى يجتلب منه قبل التفرق وصية خير لو كانت عنده . اللهم فقهنا في دينك و ردنا إليك رداً جميلاً .